هل القرآن الكريم من تأليف النبي محمد صلى الله عليه وسلم ؟

قالـوا : القرآن ليس
وحي الله، بل هو من إنشاء
محمد
وإبداعه!.
والجواب : أن هذه دعوى تحتاج إلى دليل، كما أن القول بنزول
القرآن من الله على النبي دعوى تحتاج
أيضاً إلى دليل، فنحن أمام خيارين: أولهما أن
القرآن من
كلام الله. والآخر أنه من إنشاء
النبي صلى الله عليه وسلم .
ولو
فرضنا ـ جدلاً ـ صحة الخيار الثاني ، فإنا نتساءل: لماذا يؤلف مدعي النبوة هذا
السِفر العظيم وتلك اللوحة البيانية المذهلة ثم ينسبه إلى غيره.
ولماذا يتحدى
العالمين أن يأتوا بمثله؟ وكيف له أن يحيط بأخبار الأولين وأن يتوصل إلى علوم
الآخرين؟ وكيف تنبأ بالغيوب الكثيرة التي ملأت صفحات كتابه، ومنها ما تحقق في
حياته، ومنها ما يشهد وقوعه بصدقه إلى قيام الساعة

ثم لو كتب مدعٍ ما كتاباً، فماذا ترانا نتوقع أن نجد فيه؟
لو أطلق الواحد منا
خياله محاولاً تصور كتاب يكتبه مدع كاذب؛ فإنه سيجد الكثير مما ينبه العقلاء – ولو
بعد حين – إلى بشـريته، وأنه من صناعة إنسان، وهذا ليس بالعسير، فالبشـر يكتبون
بمعايير البـشر وقدراتهم، ووفق أحاسيسهم ورغباتهم وعلومهم وموضوعاتهم.
إن نظرة
فاحصة لآي القرآن ستنبئ
عن إلهية منزل القرآن؛ إذ هو في موضوعاته يتسامى بعيداً عن اهتمامات البشر وما يجول
في أذهانهم، فحديثه يدور حول موضوعات لا يطرقها البشر عادة ولا يقدرون على الإنشاء
فيها، كالحديث عن صفات
الله وأسمائه
وأفعاله، وعن اليوم الآخر وأهواله وجنته وناره، والحديث عن التاريخ القديم
والمستقبل البعيد.

وفي مقابل ذلك لا نجد أي مشاعر إنسانية يحملها القرآن في
صفحاته، فلا يظهر فيه حزن الاستضعاف المكي، ولا نشوة النصر المدني، لا نجد فيه أي
حديث يتعلق بآلام
النبي وأفراحه
وآماله وتطلعاته، فكما لا يتحدث
القرآن عن موت
زوجه خديجة وعمه أبي طالب في عام الحزن؛ فإنه لا يذكر شيئاً عن زواجه أو ميلاد
أولاده أو وفاتهم أو غير ذلك من الأمور الشخصية المتعلقة بزوجاته أو أصحابه،
فالقرآن غير معني بتسجيل السير والحكايات ، لذلك لم يرد فيه ذكر اسم زوجة من زوجاته
أو ابن من أبنائه وبناته، بل ولا اسم عدو من أعدائه ، ولا صاحب من أصحابه ، خلا أبا
لهب وزيداً .
بل إن
القرآن لم
يذكر اسم
النبي
في صفحاته إلا خمس مرات، بينما ذكر عيسى عليه السلام
باسمه خمساً وعشرين مرة، وذكر موسى بما يربو على المائة مرة؛ ليبرهن لكل قارئ أنه
كتاب
الله ، وليس
كتاب
محمد صلى
الله عليه وسلم
.

وإذا شئنا مزيداً من البيان فلننظر إلى الكتب التي يؤمن بها اليهود والنصارى
اليوم؛ فإنا نجدها مليئة بما يدل على بشريتها، بما تحكيه من هموم البشـر وآلامهم
وآمالهم ورغباتهم، وذلك باب يطول تتبعه ، وحسبك من القلادة ما أحاط العنق.
أرسل
يوحنا في رسالته المقدسة عند
النصارى كلمات تبين
عواطفه ومشاعره الإنسانية، فيقول: ” غايس الحبيب الذي أحبه بالحق، أيها الحبيب في
كل شيء أروم أن تكون ناجحاً وصحيحاً… سلام لك، يسلم عليك الأحباء، سلم على
الأحباء بأسمائهم” ( يوحنا (3) 1-14).
وأما بولس فكتب إلى صديقه تيموثاوس رسالته
التي أضحت عند النصارى جزءاً من كتابهم المقدس، فيقول فيها: “الرداء الذي تركته في
تراوس عند كابرس أحضره متى جئت، والكتب أيضاً لاسيما الرقوق …. سلم على ريسكا
وأكيلا وبيت أنيسي فورس، اراستس بقي في كورنثوس، وأما تروفيمس فتركته في ميليتس
مريضاً، بادر أن تجيء قبل الشتاء…” ( تيموثاوس (2) 4/13 – 21)، فمثل هذا الإنشاء
والمعاني الإنسانية لا تجده في
القرآن
العظيم.
وفي مقابله يمكننا من خلال تفحص النص القرآني الوقوف على عشرات
الشواهد التي تثبت أن هذا
القرآن ليس من
إنشاء
محمد r
ولا تأليفه، بل هو كلام
الله تبارك
وتعالى المنزل
عليه .
وفي
هذا الصدد نقف مع أربعة أنواع من الآيات الدالة على ذلك، وهي:
– آيات عتاب
النبي .
– آيات
تتعلق بأحداث تشهد بوحي
القرآن
عليه.
– إعجاز
القرآن
الكريم.
– إخبار
القرآن
بالغيوب.
وفيما يلي تفصيل ذلك.
أولاً: دلالة آيات العتاب
:

البشر حين يكتبون فإنهم يمجدون أنفسهم ويعظمون عند الناس ذواتهم،
فالبشر يكتبون ليخلدوا ذكرهم ومفاخرهم، وهم بالطبع يتعامون عن ذكر معايبهم
وأخطائهم، فما لتخليد هذا يكتبون.
ولم يسجل التاريخ البشري عن كاتب ما سجله
القرآن من
عتاب
الله نبيه على
بعض ما فعله ، ولو كان
القرآن من
إنشائه لبرر له فِعاله، وصوّب خطأه، فآي
القرآن على
خلاف ما نعتاده من البشر ونسقهم وطرائقهم في التأليف.

والمواضع التي
عاتب
الله فيها
نبيه r عديدة ، منها أنه لما جاءه المنافقون بعد غزوة تبوك يعتذرون عن تخلفهم
بأعذار كاذبة؛ قبِل منهم أعذارهم، وعفا عنهم، فعاتبه ربه عز وجل: ﴿ عَفَا اللهُ
عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ
الْكَاذِبِينَ ﴾ (التوبة: 43)([2]).
ومنها أنه لما جاء إليه زيد بن حارثة
يستشيره في طلاق امرأته زينب؛ أمره
النبي بإمساكها،
مع أن
الله أعلمه أن
زيداً سيطلقها، وأنها ستكون زوجة له وأُمّاً للمؤمنين، فكشف
القرآن سر
نفسِه: ﴿ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ
الله عَلَيْهِ
وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ
الله
وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله
مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَالله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ﴾ (الأحزاب:
37)، تقول
عائشة رضي الله عنها:
(ولو كان
محمد
صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً
مما أُنزل عليه؛ لكتم هذه)([3]).

ومنها أنه لما دخل على النبي r نفر من
سادات قريش، فجعل يعرض عليهم
الإسلام وهو يطمع في إسلامهم، وفيما هم كذلك
دخل
عليه عبد الله بن أم
مكتوم وهو أعمى يسأله، فأعرض عنه
النبي r وأقبل على
السادة طمعاً في إسلامهم، فعاتبه ربه: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى ` أَنْ جَاءَهُ
الْأَعْمَى ` وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ` أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ
الذِّكْرَى ` أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ` فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ` وَمَا عَلَيْكَ
أَلَّا يَزَّكَّى ` وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى ` وَهُوَ يَخْشَى ` فَأَنْتَ
عَنْهُ تَلَهَّى ﴾ (عبس: 1-10)([4])، ولو كان
القرآن من
كلام محمد، لما سطر فيه مثل هذا ، بل كتمه.
وقد لفت هذا الموقف نظر المستشرق
الإنجليزي الدكتور (لايتنر)، فقال في كتابه “دين الإسلام”: “مرة أوحى
الله إلى النبي وحياً شديد
المؤاخذة ؛ لأنه أدار وجهَه عن رجل فقير أعمى , ليخاطب رجلاً غنياً من ذوي النفوذ،
وقد نشر ذاك الوحي، فلو كان
محمد كاذباً لما
كان لذلك الوحي من وجود” ([5]).

وكذلك عاتب الله نبيهr
لما حرم على نفسه العسل ، حين أكله عند إحدى أزواجه، فأخبرته زوجتان أخريان أنهما
تجدان منه ريح المغافير، وهو طعام حلو الطعم، سيء الرائحة، فحرَّمه ﷺ على نفسه،
فقال له الله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ
تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ﴾ (التحريم: 1).
ولو كان
محمد rمؤلف القرآن لما
قال فيما هو في ظاهره خطاب له r: ﴿ وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ
تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ` إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ
وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾ (الإسراء:
74-75).
ولو كان من تأليفه لما قال عن نفسه: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ
الْأَقَاوِيلِ ` لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ` ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ
الْوَتِينَ ` فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ (الحاقة: 44-47)، فما
هكذا يكتب البشر عن أنفسهم.
ثانياً : أحداث تشهد بوحي
القرآن
:

إن آيات القرآن لم
تعاتب
النبي r
فحسب، بل جاءت أحياناً على خلاف ما يحبه r ويهواه، ومن ذلك أنه لما توفي عبد
الله بن أُبي
كبير المنافقين ، كفنه
النبي r في ثوبه،
وأراد أن يستغفر له ويصلي
عليه ، فقال
له عمر رضى
الله عنه:
أتصلي
عليه وقد نهاك
ربك؟ فقال r: «إنما خيرني ربي فقال: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ
لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ﴾
(التوبة: 80)، وسأزيده على السبعين».

لقد كان rحريصاً على أن تدرك رحمته
كل أحد ، فأنزل
الله تعالى
عليه: ﴿وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ
قَبْرِهِ ﴾ (التوبة: 84)، فترك الصلاة عليهم([6]).
ولما حضرت الوفاة عمه أبا
طالب؛ دخل
عليه النبي rوعنده أبو
جهل فقال: «أي عم، قل: لا إله إلا
الله ؛ كلمة
أحاج لك بها عند الله» فقال أبو جهل وعبد
الله بن أبي
أمية: يا أبا طالب ترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء
كلمهم به: على ملة عبد المطلب.
فقال
النبي r متحسراً
على وفاة عمه على غير الإسلام: «لأستغفرن لك؛ ما لم أُنه عنه» قال ذلك وفاء منه
rلعمه الذي كثيراً ما دافع عنه وآزره، فنزل قول
الله على غير
مراده: ﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ
لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ
أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ (التوبة: 113)، ونزل: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ
أَحْبَبْتَ ﴾ (القصص: 56)([7]).
وصلى r الفجر يوماً، فرفع رأسه من الركوع، وقال
والأسى يعتصر قلبه مما يصنعه كفار قريش بأصحابه: «اللهم ربنا ولك الحمد، اللهم العن
فلاناً وفلاناً وفلاناً»، فأنزل
الله عز وجل:
﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ
فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ (آل عمران: 128)([8]).
كيف يصح فرض أن
القرآن من
إنشاء
النبي r
، وفيه قوله تعالى: ﴿ وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً ` إِلاَّ رَحْمَةً مِّن
رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً ﴾ (الإسراء: 86-87).
وإن مما
يدفع هذا الفرض ويدحضه تأخره
عليه الصلاة
والسلام في جواب أسئلة ملحة استلبث الوحي في جوابها، مع مسيس حاجته r إلى هذا
الجواب.
ومن ذلك أن قريشاً بعثت النضر بن الحارث , وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار
اليهود بالمدينة , وطلبوا منهم العون في اختبار
النبي r للوقوف
على صدق نبوته، فأرشدهم اليهود إلى سؤاله عن أمور ثلاثة: عن فتية كانوا في الدهر
الأول، وعن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، وعن الروح ما هو؟
وقالوا: فإن
أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه , وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول فاصنعوا في أمره ما
بدا لكم. فأتت قريش النبيَّ r وسألته, فقال لهم : «أخبركم غدا عما سألتم عنه»، ولم
يستثن [أي لم يقل : إن شاء الله] .
فانصرفوا عنه، ومكث رسول
الله r خمس
عشرة ليلة , لا يُحْدِثُ
الله له في
ذلك وحياً, ولا يأتيه جبرائيل
عليه السلام
حتى أرجف أهل مكة , وقالوا: وعدنا
محمد غداً, واليوم
خمس عشرة ليلة لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه.
وأحزن رسولَ
الله r مُكْثُ
الوحي عنه, وشق
عليه ما تكلم
به أهل مكة.
ثم جاءه جبرائيل-
عليه السلام –
من عند
الله عز وجل
بسورة أصحاب الكهف , وفيها معاتبته إياه على حزنه عليهم ، وفيها أيضاً خبر ما سألوه
عنه من أمر الفتية , والرجل الطواف , وفيها قول
الله عز وجل:
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم
مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ (الإسراء: 85) ([9])، فلو كان
القرآن من عند
نفسه r لأجابهم من لحظته أو بعد ساعة، ولما أرهق نفسه خمس عشرة ليلة في انتظار جواب
هو سيقوله وينشئه من عند نفسه.

وحين أرجف المنافقون بحديث الإفك عن زوجه
– عائشة رضي
الله عنها
أبطأ الوحي في بيان براءتها، وطال الأمر
عليه وعلى
المسلمين، والناس يخوضون في الإفك ، حتى بلغت القلوب الحناجر , وهو لا يملك إلا أن
يقول بكل تحفظ واحتراس: «إني لا أعلم عنها إلا خيراً».
وبقي r شهراً في غم
واستشارة للأصحاب ، والكل يقولون: ما علمنا عليها من سوء، لم يزد على أن قال لها
آخر الأمر : «يا عائشة، أما إنه بلغني كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن
كنتِ ألممت بذنب فاستغفري الله»([10]).
ثم نزل
عليه قوله
تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ﴾ إلى
قوله:﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ
وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ
مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾(النور: 26)،
فأعلم الناس ببراءتها.
فماذا كان يمنعه – لو أن أمر
القرآن إليه –
أن يسارع إلى تقول هذه الكلمات الحاسمة ؛ ليحمي بها عرضه , ويذب بها عن عرينه ,
وينسبها إلى الوحي السماوي, لتنقطع ألسنة المتخرصين؟ ولكنه r الصادق الأمين الذي ما
كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على
الله ﴿وَلَوْ
تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ` لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ `
ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ` فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ
حَاجِزِينَ ﴾ (الحاقة: 44- 47)([11]).

ثالثاً : الكتاب المعجز
:

ولو عدنا ثانية إلى الفرض بأن القرآن من تأليف النبي r وإنشائه؛
لتبين لنا استحالة هذا الفرض بمجرد النظر في نظم
القرآن
وأسلوبه ومقارنته مع أسلوب النبي r في حديثه
المدون في كتب السنة والحديث، ليقيننا أنه لا يمكن لأديب أن يغير أسلوبه أو طريقته
في الكتابة بمثل تلك المغايرة التي نجدها بين
القرآن
والسنة.
ولو شئنا أن نضرب لذلك مثلاً، فنقارن بين بيان
القرآن
وأسلوبه وبين كلام النبي r ، فكلاهما
كلام بليغ ، لكن شتان بين كلام الباري وكلام عبده.
فقوله: «إنما الأعمال
بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى
الله ورسوله
فهجرته إلى
الله ورسوله
…»([12]) كلام عربي فصيح، لكن شتان بينه وبين قول
الله عز وجل:
﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً `
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ` كَلَّا سَنَكْتُبُ
مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا ` وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ
وَيَأْتِينَا فَرْدًا ` وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ
الله آَلِهَةً
لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ` كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ
عَلَيْهِمْ ضِدًّا ` أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى
الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ` فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ
لَهُمْ عَدًّا﴾ (مريم: 77-84)، فبين القولين من تباين الأسلوب وجزالته ما لا يخفى
على العوام؛ فضلاً عن أرباب الفصاحة والبيان.

وإذا كان القرآن من تأليف النبي rفكيف نجح
في
تأليف هذا
الذي ذهل لبلاغته أرباب اللغة ورواد الأدب والبيان؟ كيف جرُأ على تحديهم بالإتيان
بمثله؟ ولماذا لم ينسبه إلى نفسه فيحوز شرف تأليفه وإبداعه؟ أما كان من الأوفق له
أن ينسبه لنفسه ويتحدى به الآخرين، ولن يعارضه أحد في أنه صاحبه؟!
لقد جعل
الله القرآنَ
الكريم أعظم
وأدوم معجزات
الرسول
r، فهو معجزته في كل عصر وحين، وقد تحدى من قال بأنه من
تأليف محمد r، فدعاهم
إلى الإتيان بمثله، فكلام البشر يقارع ويضارع، وأما كلام الرب فلا يماثل ولا
يكافأ.

لكن العرب على فصاحتهم وبيانهم عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله
رغم التحدي القرآني المستفز لهممهم والتي تؤزه شدة الكراهية والعداوة له والحرص على
الطعن فيه والتماس أي زلل فيه أو خطأ، وأعيتهم الحيل في ذلك ، وهم يسمعونه يصدع بين
ظهرانيهم: ﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ ` فَلْيَأْتُوا
بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ﴾ (الطور:33-34).
فلما أعجز
المشركين أن يأتوا بمثل جميعه، تحداهم
القرآن بأقل
منه؛ أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات من عندهم تضارع
القرآن وتماثل
بيانه ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ
مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ
الله إِن
كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ (هود: 13).
فلما عجزوا عن الإتيان بعشر سور من مثله تحداهم
القرآن أن
يأتوا بسورة واحدة تضارعه في بيانه وإحكامه: ﴿ وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا
نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ
شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ
الله إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ (البقرة: 23).

ويبلغ التحدي القرآني غايته حين
يخبر
القرآن أن عجز
المشركين عن محاكاته والإتيان بمثله عجز دائم لا انقطاع له، فيقول: ﴿ فَإِن لَّمْ
تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ ﴾ (البقرة: 24)، وأن نتيجة التحدي النهائية هي خسارة
أعداء
القرآن
والزاعمين بشريته ﴿ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن
يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ﴾ (الإسراء: 88).
كما قرر
القرآن التحدي
في صورة أخرى كان يذكرهم بها كرَّة بعد كرَّة، وهي الحروف المقطعة التي تبدأ فيها
تسع وعشرون سورة من سور
القرآن
﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ (البقرة: 1)
، ﴿ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ﴾ (ص: 1)، ﴿حم ` تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ
الله
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ (غافر: 1-2)، فهذه الآيات وأمثالها تقول للعرب: القرآن مكون
من هذه الحروف ، وهي حروف شعركم ونثركم، فهاتوا مثله يا من تدعون أنه من كلام
محمد r.
قال
ابن كثير: “إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بياناً لإعجاز
القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه من هذه الحروف المقطعة التي
يتخاطبون بها، ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن
وبيان إعجازه وعظمته”([13]).

وهذا التحدي الإلهي قائم ما دام الليل
والنهار، ولئن عجز عنه أرباب اللغة زمن جزالتها، فإنه لن يقدر
عليه أولئك
المتطفلون اليوم على موائد العلم والأدب والذين يحاولون محاكاة
القرآن
بالمضحك من القول والسخيف من المعاني، وسفاسف المعارف.
فحين أراد مسيلمة
معارضة
القرآن فضحه
الله وأخزاه،
فكان قوله محلاً لسخرية العقلاء وإعراض البلغاء، فقد قال: “يا ضفدع، نقي كما تنقين
، لا الماء تدركين ، ولا الشراب تمنعين، لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكنّ
قريشاً قوم يعتدون”([14]).
وقال أيضاً معارضاً القرآن: ” ألم تر كيف فعل ربك
بالحبلى، أخرج من بطنها نسمة تسعى ، من بين صفاق وحشى ..أوحي إلي أن
الله خلق
النساء أفراجاً، وجعل الرجال لهن أزواجاً، فنولج فيهن قعساً إيلاجاً، ثم نخرجها إذا
نشاء إخراجاً، فينتجن لنا سخالاً إنتاجاً”([15]).
وشرع الأديب ابن المقفع في
معارضة
القرآن ، وكان
من أفصح أهل زمانه، ثم مرَّ بصبي يقرأ: ﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ ﴾
(هود: 44) فرجع فمحى ما عمل، وقال: أشهد أن هذا لا يعارض، وما هو من كلام
البشر([16]).
ومثله صنع يحيى بن حكم الغزال بليغ الأندلس في زمنه، فحُكي أنه رام
معارضة القرآن، فنظر في سورة الإخلاص ليحذو على مثالها وينسج على منوالها ، فعجز
وقال: “فاعترتني منه خشية ورِقَّة حملتني على التوبة
والإنابة”([17]).

وظهرت في العصر الحديث محاولات سخيفة لتقليد القرآن
ومحاكاته، لم يزد صانعوها على محاكاة أسلوب القرآن
وطريقته في البيان مع تغيير بعض الألفاظ بطريقة تدعو للضحك، وتستدعي
الشفقة، ومن ذلك أن القس أنيس شروش يحكي عن جهد قامت به مجموعة من المفكرين في
أورشليم القدس، وقد عملوا خلال ست عشرة سنة على إعادة صياغة الإنجيل على نحو أسلوب
القرآن ، فكان
مما تحذلقوا فيه بعد هذه السنين: “بسم
الله الرحمن
الرحيم. قل يا أيها الذين آمنوا إن كنتم تؤمنون بالله حقاً فآمنوا بي ولا تخافوا.
إن لكم عنده جنات نزلاً. فلأسبقنكم إلى
الله لأعدها
لكم ، ثم لآتينكم نزلة أخرى ، و إنكم لتعرفون السبيل إلى قبلة العليا.
فقال له
توما الحواري: مولانا إننا لا نملك من ذلك علماً. فقال له عيسى: أنا هو الصراط إلى
الله حقاً ،
ومن دوني لا تستطيعون إليه سبيلاً، ومن عرفني فكأنما عرف
الله ، ولأنكم
منذ الآن تعرفونه وتبصـرونه يقيناً ، فقال له فيليب الحواري: مولانا أرنا
الله جهرة
تكفينا، فقال عيسى: أو لم تؤمنوا بعد، وقد أقمت معكم دهراً ؟ فمن رآني فكأنما رأى
الله جهراً
“.
وقد عقب القس على هذا الكلام الركيك الذي استمروا في إعادة صياغته خمس عشرة
سنة بقوله: “إنه نص جميل بلغة عربية جميلة “([18]).
وقد تكامل هذا الجهد السخيف،
حين أصدروا ما سمي بـ “الفرقان الحق”، وأقتبس منه بعض الفقرات لأؤنس بها القارئ
الكريم: “باسم الآب الكلمة الروح الإله الواحد الأوحد * يا أيها الذين كفروا من
عبادنا الضالين إنكم لتقولون قولاً لَغْواً ما كان شعراً ولا نثراً ولا قولاً
سديداً * إنْ هو إلا لغوٌ مردَّدٌ ترديداً * يرغِّب التابعين ترغيباً ويهددالمعرضين
تهديداً * حَسُنَ وقعاً في نفوس عبادنا الضالين واستمرأه الجاهلون * سمٌّ فيدسمٍ
ولكن أكثرهم لايشعرون فلا يَبْغُون عنه محيداً”([19]).

ويحكي الدكتور
إبراهيم خليل قصة طبيب مصري مسيحي استفزه تحدي
القرآن ، فعزم
على إنشاء كتاب يجيب فيه التحدي ، ويسميه: “وانتهت تحديات القرآن”.
وسعياً
لتحقيق ذلك كتب الطبيب المصري رسالة أرسل صورة منها إلى ألفي عالم أو معهد أو جامعة
ممن تخصصوا بالدراسات العربية والإسلامية في مختلف أنحاء العالم يدعوهم لمساعدته في
إنجاز هذا الكتاب المهم، وكان مما سطره في خطابه قوله: “القرآن يتحدى البشرية في
جميع أنحاء العالم في الماضي والحاضر والمستقبل بشيء غريب جداً ، و هو أنها لا
تستطيع تكوين ما يسمى بالسورة باللغة العربية… السورة رقم 112 ، و هي من أصغر سور
القرآن ، ولا
يزيد عدد كلماتها عن 15 كلمة ، ويتبع ذلك أن
القرآن يتحدى
البشـرية بالإتيان بـ(15) كلمة لتكوين سورة واحدة كالتي توجد بالقرآن…
سيدي:
أعتقد أن مهاجمة هذه النقطة الهامة والخطيرة ، وذلك بالإتيان بأكبر عدد ممكن من
السور كالتي توجد، أو – آمل أن تكون – أفضل من تلك الموجودة بالقرآن سيسبب لنا
نجاحاً عظيماً لإقناع المسلمين بأنا قبلنا هذه التحديات ، بل وانتصرنا عليهم… فهل
تتكرم يا سيدي مشكوراً بإرسال 15 كلمة باللغة العربية أو أكثر من المستوى البياني
الرفيع مكوناً جملة كالتي توجد في القرآن..”.

وللتوثيق أورد الدكتور
إبراهيم خليل صورة الخطاب وعناوين الجهات (2000 عنوان) التي أرسل إليها، وتكررت
محاولة الطبيب المسيحي أربع مرات طوال سنة 1990م ، فكانت محصلة ثمانية آلاف رسالة
أرسلها إلى 2000 جهة أو شخصية علمية؛ أن وصلت إليه ردود اعتذار باهتة عرض الدكتور
إبراهيم خليل صورها في كتابه، منها اعتذار كلية الدراسات الشرقية والإفريقية في
جامعة لندن، فقد كان ردها: “آمل أن نتفهم أن كُليتنا وأعضاءها يرفضون الخوض في
المنازعات الدينية، و بالتالي فإنه لا يمكننا إجابة طلبك “.
و أما رد إذاعة حول
العالم التنصيرية (مونت كارلو) فكان: ” الموضوع الذي طرحته موضوع هام، لكننا كإذاعة
لا نحب أن ندخل في حمى وطيس هذه المعركة، إذ لا نظن أنها تخدم رسالة الإنجيل،
فرسالتنا هي رسالة محبة، وليست رسالة تحدي…”.

وأما رد الأب ليو من
الفاتيكان فكان مثيراً للشفقة: “بوصفنا مسيحيين فنحن لا نقبل بالطبع أن يكون
القرآن هو
كلام
الله على
الرغم من إعجابنا به؛ حيث يعتبر القمة في الأدب العربي.. هناك نقطة عملية تعوق
مسألة الإتيان بسورة من مثل القرآن، وهي: من ذا الذي سيحكم على هذه المحاولة إن تمت
بالفعل…”، ولذلك اعتذر عن إجابة طلبه.
وأعاد الطبيب القبطي مراسلة جميع معاهد
ومؤسسات الفاتيكان طالباً إجابة التحدي ، وعرض أن يكون هو شخصياً الحكم بين
القرآن
والفاتيكان ، وطلب من الأب ” ليو” في الفاتيكان أن ينقل أي جزء مكون من 15
كلمة من الكتاب المقدس ليعارض بها القرآن، فكانت الإجابة صمت مطبق لا يشبهه إلا صمت
أصحاب القبور([20])، ليصدق فيهم جميعاً قول
الله تعالى:
﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا
الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ﴾
(الإسراء: 88).

لقد اعترف أعداء القرآن
قديماً- بعظمة
القرآن رغم
عدائهم له، وذلَّت رقابهم لما سمعوه من محكم آياته، فها هو الوليد بن المغيرة سيد
قريش وسابقها إلى محاربة
النبي rيسمعه وهو
يقرأ قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي
الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ (النحل: 90)، فيقول قولته المشهورة: “والله إنَّ لقولِه
الذي يقولُ لحلاوة، وإنّ
عليه لطلاوة،
وإنه لمثمرٌ أعلاه، مغدِقٌ أسفلُه، وإنه ليعلو وما يُعلى، وإنه ليَحطِم ما
تحته”([21]).
ولما جاء عتبة بن ربيعة إلى
النبي r سمعه يقرأ
أوائل سورة فصلت، فرجع إلى قريش قائلاً: “إني واللهِ قد سمعت قولاً ما سمعتُ بمثلِه
قط، والله ما هو بالشعر ولا السحر ولا الكهانة، يا معشر قريش: أطيعوني واجعلوها بي،
خلّوا بين هذا الرجل وبينَ ما هو فيه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعتُ
نبأ”([22]).
وأما عمر بن الخطاب فقصة إسلامه مشهورة حين دخل على أخته فوجدها
تقرأ في سورة طه، فلما قرأ فواتح السورة؛ رقّ قلبه ودخل في الإسلام ، وأصبح عمرُ
الفاروقَ الذي فرق
الله به بين
الحق والباطل.

وأما جبير بن مطعم رضى الله عنه فسمع
النبي r يقرأ
في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: ﴿أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيء أَمْ هُمُ
الْخَـٰلِقُونَ ` أَمْ خَلَقُواْ السَّمَـاواٰتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ `
أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ﴾ قال: (كاد قلبي أن
يطير)، وفي رواية: (وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي)([23]).
وأما الطفيل الدوسي
فقدم مكة، فحذرته قريش من سماع القرآن، وقالوا: وإنما قوله كالسحر، يفرق بين الرجل
وبين أبيه، وبين الرجل وبين أخيه، وبين الرجل وبين زوجته، وإنا نخشى عليك وعلى قومك
ما قد دخل علينا ، فلا تكلمنه ولا تسمعن منه شيئاً .
يقول الطفيل: فوالله ما
زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئاً ، ولا أكلمه حتى حشوت في أذني كرسفاً
[قطناً] ؛ فَرَقاً [خوفاً] من أن يبلغني شيء من قوله، وأنا لا أريد أن أسمعه
.
لكن
الله أبى إلا
أن يسمعه وهو في الطواف بعض
القرآن فقال
لنفسه: “واثكل أمي، والله إني لرجل لبيب شاعر، ما يخفى علي الحسن من القبيح، فما
يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان الذي يأتي به حسناً قبلتُه، وإن كان
قبيحاً تركتُه”.
فجلس إلى
النبي rيستمع القرآن ، ثم
ما لبث أن أسلم([24]).

ومثله خبر الشاعر لبيد بن ربيعة العامري ، وهو من
فحول شعراء الجاهلية، وصاحب إحدى المعلقات السبعة ، سأله عمر بن الخطاب يوماً :
أنشدني من شعرك ، فقرأ له سورة البقرة ، فقال‏ :‏ إنما سألتك عن شعرك، فقال‏ :‏ ما
كنت لأقول بيتاً من الشعر بعد إذ علمني
الله البقرة
وآل عمران([25]).
وفي العصر الحديث أيضاً شهد المنصفون من المستشـرقين بعظمة
القرآن، وسجلت كلماتُهم بحقه المزيدَ من الإعجاب والدَّهش من نظمه وبيانه ومضمونه،
ومنه قول المستشرق فون هامر في مقدَّمة ترجمته للقرآن: “القرآن ليس دستورَ الإسلام
فحسب، وإنما هو ذِروة البيانِ العربي، وأسلوبُ
القرآن المدهش
يشهد على أن القرآنَ هو وحيٌ من الله، وأن محمداً قد نشـر سلطانَه بإعجاز الخطاب،
فالكلمةُ [أي القرآنُ] لم يكن من الممكن أن تكونَ ثمرةَ قريحةٍ بشرية”.
وأما
فيليب حتّي فيقول في كتابه “الإسلام منهج حياة”: “إن الأسلوب القرآني مختلف عن
غيره، إنه لا يقبل المقارنة بأسلوب آخر، ولا يمكن أن يقلد، وهذا في أساسه هو إعجاز
القرآن .. فمن
جميع المعجزات كان
القرآن
المعجزة الكبرى”.
وأما جورج حنا فيقول في كتابه “قصة الإنسان”: “إذا كان
المسلمون يعتبرون أن صوابية لغة
القرآن هي
نتيجة محتومة لكون
القرآن منزلاً
ولا يحتمل التخطئة، فالمسيحيون يعترفون أيضاً بهذه الصوابية، بقطع النظر عن كونه
منزلاً أو موضوعاً، ويرجعون إليه للاستشهاد بلغته الصحيحة كلما استعصـى عليهم أمر
من أمور اللغة”.
ويقول الفيلسوف الفرنسـي هنري سيرويا في كتابه “فلسفة الفكر
الإسلامي”: “القرآن من
الله بأسلوب
سام ورفيع لا يدانيه أسلوب البشر”.
وأما المستشرق بلاشير فلم يألُ جهداً في
الطعن في
القرآن
ومعاداته في كتابه “القرآن”، لكن الحقيقة غلبته، فقال: “إن القرآن ليس
معجزة بمحتواه وتعليمه فقط، إنه أيضاً يمكنه أن يكون قبل أي شيء آخر تحفة أدبية
رائعة ؛ تسمو على جميع ما أقرته الإنسانية وبجَّلته من التحف”.
وبهرت جزالة
القرآن وروعة
أساليبه المستشـرق الشهير، الأديب غوته، فسجل في ديوانه “الديوان الشرقي للشاعر
الغربي” هذه الشهادة للقرآن: “القرآن ليس كلام البشر، فإذا أنكرنا كونه من الله،
فمعناه أننا اعتبرنا محمداً هو الإله”.
وقال: “إن أسلوب
القرآن محكم
سام مثير للدهشة .. فالقرآن كتاب الكتب.. وأنا كلما قرأت
القرآن شعرت
أن روحي تهتز داخل جسمي”([26]).

رابعاً : الإخبار
بالغيوب

ومما يمنع نسبة القرآن إلى النبي rما أخبر
عنه من الغيوب التي لا تنكشف إلا بوحي من
الله علام
الغيوب، فالغيب سر
الله لا يعرفه
إلا هو ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ` إِلَّا مَنِ
ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ
رَصَدًا ` لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا
لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا﴾ (الجن: 26-28).
والنبي صلr كسائر
البشر لا يعلم الغيب المطلق ﴿قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا
أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ﴾ (الأنعام: 50)، ﴿قُل لاَّ
أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء
الله وَلَوْ
كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ
إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ (الأعراف: 188)،
فإذا ما أخبر rبشيء من الغيب؛ فإنما يخبر بغيب لا يعلمه إلا الله، وتحقق هذه
الأخبار شهادة صادقة على نبوته، وآية باهرة على أن ما يقوله إنما يقوله بوحي من
الله.

ومن الغيوب الدالة على ربانية القرآن ما
أخبر عنه من انتشار الإسلام وظهور أمره على الأديان، وبلوغه إلى الآفاق ﴿هُوَ
الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ (الصف: 9)، فهذه الآية نزلت بعد
هزيمة المسلمين في غزوة أحد، والنبي rيقرؤها في زمن الاستضعاف، وهي إخبار بأمر غيب
لا مدخل فيه للتخمين ورجم الظنون، فإما أنه خبر كاذب صادر من مدع لغير ما يستحقه،
أو هو خبر صادق أوحاه
الله الذي
يعلم ما يُستقبَل من الأحداث والأخبار.
وحين ألقى الخوف بظلاله على المسلمين،
حين رمتهم العرب عن قوس واحدة، وطمع فيهم الأعراب، فكانوا لا يبيتون إلا في السلاح،
ولا يصبحون إلا فيه.
فقالوا: ترون أنـَّا نعيشُ حتى نبيتَ مطمئنين لا نخاف إلا
الله عز وجل؟
فنزل قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضـَى لَهُمْ
وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا
يُشْـرِكُونَ بِي شَيْئاً ﴾ (النور: 55) ([27]) وكان كذلك، فقد أمَّنهم
الله من بعد
خوفهم، وسوَّدهم الأرض، واستخلفهم فيها من بعد ذلتهم، ومكَّن لهم دينهم في مشارق
الأرض ومغاربها.

ومن غيوب القرآن، تنبؤه بنصر بدر العظيم، وذلك في وقت
كان المسلمون يعانون في مكة صنوف الاضطهاد ويُسامون سوء النكال؛ وفي وسط هذا البلاء
نزل على
النبي
rقوله تعالى: ﴿أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ
فِي الزُّبُرِ ` أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ` سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ
وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ` بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى
وَأَمَرُّ﴾ (القمر: 43-46).
فقال عمر بن الخطاب [أي في نفسه] : أي جمع يهزم؟ أي
جمع يُغلَب؟ فلما كان يوم بدر رأيتُ رسول
الله r يثِب
في الدرع، وهو يقول: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ﴾ فعرفت تأويلها
يومئذ([28])، فالآية نزلت قبل الهجرة بسنوات؛ تتحدث عن غزوة بدر واندحار المشركين
فيها، وتتنبأ بهزيمتهم وفلول جمعهم.
وقبيل معركة بدر أدرك
النبي r اقتراب
تحقق الوعد القديم الذي وعده
الله بمكة،
فقام إلى العريش يدعو ربه ويناجيه: «اللهم إني أنشدُك عهدَك ووعدَك، اللهم إن شئت
[هلاك المؤمنين] لم تُعبَد بعدَ اليوم».
ثم خرج رسول
الله rمن
عريشه، وهو يقول: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ` بَلِ السَّاعَةُ
مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ﴾ (القمر: 45-46)([29])، وهكذا كان،
فقد هزمت جموعهم، وولوا على أدبارهم، وصدق
الله نبيَه
الوعدَ، وفي تحققه آية بينة على أن هذا
القرآن من وحي
الله علام
الغيوب.
الشيخ الدكتور منقذ السقار

للرجوع الى قسم د منقذ السقار للرد
علي الشبهات تنزيه
القرآن الكريم عن دعـاوى
المبطلين

الهوامش :

([1]) هذه الملاحظة دفعت أستاذ الرياضيات في
جامعة الظهران الدكتور الكندي غاري مِلر لاعتناق الإسلام في عام 1977م.
([2])
انظر: جامع البيان، الطبري (14/272).
([3]) أخرجه البخاري ح (7420)، ومسلم ح
(177).
([4]) أخرجه الترمذي ح (3331).
([5]) قالوا عن الإسلام ، عماد الدين
خليل، ص (134).
([6]) أخرجه البخاري ح (4670)، ومسلم ح (2400).
([7]) أخرجه
البخاري ح (1360)، ومسلم ح (24).
([8]) أخرجه البخاري ح (4070).
([9]) أخرجه
الطبري في جامع البيان (17/593).
([10]) أخرجه البخاري ح (2661)، ومسلم ح
(2770).
([11]) انظر: الطعن في
القرآن الكريم والرد
على الطاعنين ، عبد المحسن زبن المطيري ، ص (311).
([12]) أخرجه البخاري ح (1)،
ومسلم ح (1907).
([13]) تفسير
القرآن
العظيم، ابن كثير (1/60).
([14]) ذكره الطبري في تاريخه (2/506)، وابن
بطة في الإبانة الكبرى ح (2423)، وابن حبان في الثقات (2/176).
([15]) ذكره
الطبري في تاريخه (2/499).
([16]) انظر: الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض
(1/275).
([17]) انظر المصدر السابق (1/275).
([18])
القرآن
والكريم والكتاب المقدس، أيهما كلام الله؟ الشيخ أحمد ديدات وأنيس شروش ، ص
(101-102).
([19]) (الفرقان الحق)، منشور على شبكة الإنترنت.
([20]) انظر:
لماذا أسلم صديقي؟ إبراهيم خليل ، ص (67-111).
([21]) السيرة النبوية، ابن كثير
(1/499).
([22]) أخرجه البيهقي في الدلائل (2/202)، وابن إسحاق في السيرة
(1/187).
([23]) أخرجه البخاري ح (4854) و(4023).
([24])انظر: سيرة ابن هشام،
ص (382).
([25]) الاستيعاب في معرفة الأصحاب ، ابن عبد البر (3/1335).
([26])
انظر هذه الشهادات وغيرها: قالوا عن الإسلام، عماد الدين خليل (52، 58-59، 75،
145).
([27]) أخرجه البيهقي في الدلائل (3/6-7)، والحاكم في المستدرك
(2/434).
([28]) تفسير
القرآن العظيم
لابن كثير (4/266)، والخبر يرويه ابن أبي حاتم في تفسيره (10/3321).
([29])
أخرجه البخاري ح (2915).

منقووول

 

 


 

 

أضف تعليق